كيف يتقزّم الإعلام السعودي أمام أصوات أنصار فلسطين؟
في لحظة فارقة وهامة من عمر المواجهة مع أعداء الأمة، يبدو غريبا أن تتسم قراءة المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي لمتطلبات المرحلة والمواجهة مع الكيان الصهيوني بالعقلانية، وهو الذي تقود بلاده كل هذه الفوضى ضد الأمة العربية والإسلامية، فيما المنتمون لهذه الأمة من الأنظمة، وقادة الرأي، يخلعون ثوب الانتماء إليها ويصطفون مع أعداءها في استهداف الشعب الفلسطيني.
لا يقف الأمر في دهاليز السياسة ولكنه ينسحب على الإعلام، وهو أهم أسلحة المواجهة اليوم، ليكشف الواقع عن حالة “غريبة” من الانسلاخ عن قضايا الأمة المصيرية، فالإعلام السعودي والإماراتي يسوّقان للسردية الصهيونية، ويكشفان عن انحياز واضح لها بخطاب المُخطط له أن يتصدر الواجهة الإعلامية العربية، لتشوية صورة المقاومة في الذهنية الغربية، وتطبيع المتابعة لأخبار المجازر الصهيونية بحق الفلسطينيين بخيت يصبح قتل المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ، دفاعا عن النفس.
الأكيد أن ظهور الإعلام السعودي والإماراتي على نحو بارز بهذا التماهي مع العدو، إنما يأتي اتساقا مع الموقف السياسي لسلطة بن سلمان، وبن زايد وهما من جعلت القضية الفلسطينية أحد أبرز همومهما، ولكن لجهة الخلاص منها وتهيئة مناخات الحياة للكيان الصهيوني.
وكما أفرز طوفان الأقصى الأحرار من أبناء الأمة في مواجهة الأعداء، دون خشية من فقدان مصلحة أو رهبة من عدو، كذلك كشف في الإعلام العربي عن الغث من السمين والمفسد من المصلح.
خلفيات خطاب المساند للعدو
في هذه الجولة من العدوان الصهيوني، وفي تناولات الإعلام الخليجي للقضية، برز الكثير مما يمكن قراءته على أنه تحرك عملي مع العدو لدول مثل السعودية والإمارات وترجمة لمقتضيات التطبيع خصوصا وأن التناولات لا تأتي فقط لتدافع وإن بصورة غير مباشرة عن العدو، وإنما أيضا، تعمل على قتل روح المقاومة والروح الجهادية لدى شباب الأمة بما يهيئ نفسياتهم للقبول بسياسة الأمر الواقع والتعايش مع احتلال العدو الإسرائيلي للأرض العربية، بل وحتى نهبها لخيرات الأمة عبر الوكيل الأمريكي في سياق عملية التخادم، ولا يكفي أن يعمل إعلام الدولتين على بث روح الإحباط في نفسية المشاهد العربي من قدرة المقاومة الفلسطينية على استرداد الأراضي المحتلة، ولكنهما تزيدان، في رفع معنويات جيش العدو والمستوطنين الصهاينة على حد سواء، كما تتبنّي قنوات مثل: العربية، والحدث، وسكاي نيوز عربية، وإم بي سي، لمصطلحات مثل “مسلحين وارهابيين” عند الحديث عن المقاومة، إلى جانب تقزيم العمليات البطولية للمجاهدين ضد جيش العدو الإسرائيلي، إلى جانب اعتبار أعمال الهدم للمنازل على ساكنيها والمستشفيات على مرتاديها والمؤسسات على من فيها بأنها ليست أكثر من أعمال عنف متبادل.
على أن الثورة المجتمعية الغاضبة التي شهدها العراق قبل أيام ضد قناة إم بي سي وهي إحدى القتوات الناعقة بالخطاب الإسرائيلي، جاءت لتؤكد للوبي الإعلام الصهيوني، بأن القضية مسألة راسخة في الوجدان العربي الإسلامي ولا يمكن أن تؤثر فيها خطابات مأزومة، مرسومة في دهاليز مصادر القرار الصهيوني الأمريكي، كما لا يمكن لوجدان الأمة القبول بالمساس به.
ضمير ميت
حاولت السعودية تسويق أن طوفان الأقصى جاء بتوجيه ودعم من إيران، وهو أمر نفته حماس كما نفته إيران، لكنه كشف عن استعارات وصفها البعض بالهزيلة لجهة تبرير العجز في أن يكون للنظام السعودي موقف حقيقي داعم لتحرُّر القضية الفلسطينية، بدليل أن الوحشية التي ارتكبها ولا زال يرتكبها جيش العدو الإسرائيلي في غزة، لم تحرك ساكنا في مشاعر الكيان السعودي المتصهين حسب تعبير كثير من الناشطين، فلا القتل بشتى أشكال الأسلحة الأمريكية ولا القتل بالتجويع، ولا المعاناة التي يعيشها أهالي غزة في العراء وتقلبات الطقس وانعدام الخدمات بعد ما هدم جيش العدو الإسرائيلي كل شيء، كان له الأثر في تحفيز أنظمة كالتي تحكم الخليج لتكون في مستوى المسؤولية الدينية والأخلاقية والتأريخية في الوقوف مع باقي الأحرار ورفض كل هذا الإجرام بحق الشعب الفلسطيني ولاحقا الشعب اللبناني.
منذ بواكير ظهور حركات المقاومة سواء في فلسطين أو لبنان أخذ السعودي لنفسه موقف المناهض لأي تحرك ضد العدو الإسرائيلي في ما اعتبره البعض ترجمة لحالة من التوافق بينه وبين هذا العدو الإسرائيلي وإن كان غير معلن، لذلك يمنع النظام السعودي حد تحريم كل فعل معبر عن الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، أكان بالتظاهرات أو إقامة الفعاليات أو حتى التعبير عن رفض ممارسات العدو الصهيوني بحق الفلسطينيين، وهناك من يقبع في السجون اليوم ممن عبروا صراحة عن رفضهم للإجرام الصهيوني من الناشطين، فيما تعجّ المقاهي والأماكن العامة بجواسيس بن سلمان، يلتقطون كل من تفوّه بكلمة مع القضية الفلسطينية.
ويؤكد بعض الناشطين السعوديين أن الوضع لا يسمح بالحديث حول هذا الموضوع إلا إذا كان على نفس خط النظام، وهو ما تقوم به منصاته الإعلامية لتعكس هذا التوجه الرسمي.
حرب نفسية
لا يخرج خطاب التحريض والتحبيط الذي تتبناه قنوات السعودية والإمارات عن كونه يأتي في إطار الحرب النفسية الهادفة إلى زعزعة إيمان الشارع العربي والإسلامي بقضيته المركزية فلسطين، وبعدوّه الأزلي الكيان الصهيوني.
ولم يكن تقرير قناة الـ إم بي سي، الذي ثار ضده الشارع العراقي، وأغلق مكاتبها في بغداد، إلا نموذجا حيا لاستخفاف الإعلام السعودي بمشاعر الأمة من جهة وبرموز المقاومة من جهة أخرى.
حمل تقرير القناة السعودية عنوان (ألفية التخلص من الإرهابيين)، وتضمن مشاهد لقادة من القاعدة وداعش، وقادة من حركة حماس كالشهيد يحيى السنوار والشهيد إسماعيل هنية والشهيد صالح العاروري، وكذا قادة من حزب الله اللبناني كالشهيد السيد حسن نصر الله والشهيد فؤاد شكر، اللذين اغتالتهما طائرات العدو الصهيوني، إلى جانب قادة من اليمن.
ويكشف هذا السقوط عن تفوق الإعلام السعودي على إعلام العدو الإسرائيلي في تضمين الخطاب المعادي ضد الفلسطينيين ومقاومته الباسلة، وأي صوت حر يقف معهم.
ثُلة من المنتفعين
العجيب في هذا كله أن عددًا من واجهة الإعلام السعودي، أرادوا الدفاع عن الشكل الذي ظهرت به تغطية القنوات السعودية من انحياز وتبنّي للروايات الصهيونية، فسقطوا في الوحل عُراة، وهُم في محاولاتهم الدفاع عن موقف النظام السعودي، يهاجمون الناشطين الذين فضحوا هذا الموقف تجاه ما يحدث في غزة بوضع هؤلاء الناشطين في دائرة إما الافتقار لأبجديات العمل الصحفي، أو القبول بالتناول بعيدا عن المعايير المهنية، فيقولون: إن هؤلاء الناشطين -بزعمهم- يطالبونا بالتخلي عن المعايير المهنية في العمل الصحفي وتبني وجهة نظر معينة!!
ومثل هذا الطرح اعتبره البعض تأكيدًا على شرور نفسية القائمين على تنفيذ الخطاب مع الكيان، إذ أنهم من جهة ينكرون أن القضية الفلسطينية قضيتنا التي تتطلب منا الوقوف معها في كل الظروف والمستويات، ومن جهة أخرى يدّعون ما لا يفعلون إذ أنهم يتحدثون عن المعايير والمهنية، بينما لا يلزموا حتى دور الحياد، بل وذهب بعض المنتفعين إلى أن هجوم تغطية القنوات والصحف والسعودية لما يحدث في فلسطين يقف خلفه الإخوان، بتقزيم واضح وحاجة للسعودية في سياستها الإعلامية إلى من يدافع عنها، ويقدم عنها التبريرات المُخجلة التي تستعير القواعد في غير موضعها.
وزد على ذلك أن هؤلاء النفر الذين قدموا أنفسهم مدافعين عن تغطية السعودي، يؤكدون سيرهم ذات الاتجاه باستخدام ذات المصطلحات المؤطِرة للمقاومة، في توضيحاتهم، وتسويق ذات الرؤي الصهيونية لحل القضية الفلسطينية، والتحفيز للقبول بالتعايش مع الكيان وأنه ما من حل عسكري للصراع مع إسرائيل، ثم يأتي المُخجل في حديث مثل هؤلاء، بان إيران وراء كل هذا بقصد نهب ثروات السعودية!!
لا يجب أن تناموا
ومن المفارقات وفق ما تكشف عنه المعطيات أن ما تعده الرياض وأبوظبي أعمال عنف متبادل، ليس كذلك لدى جمهور مدن أمريكية وأوروبية، حيث يرونه إبادة تمارسها قوات العدو الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، رافضين في مظاهرات متواصلة ما يحدث، وهاهم أنصار فلسطين في نيويورك يحاصرون منزل السيناتور تشاك شومر، ضمن تظاهرة حملت شعار “لا يجب أن تناموا وغزة تُباد”، ورفعت اعلام فلسطين.
المتظاهرون طالبوا بوقف فوري للعدوان على غزة، وقدموا احتجاجا على الدعم الأمريكي للعدو الإسرائيلي.
وفي اكسفورد استغل الطلاب المؤيدون لفلسطين مراسم تخرج في الجامعة، وعطلوا الحدث احتجاجًا على تواطؤ الجامعة في الإبادة من خلال الاستثمار في شركات تابعة للاحتلال، وأعلن طلاب الجامعة الأمريكية تصويتهم بالأغلبية على سحب الجامعة للاستثمارات والتوقف عن دعم العدو ماليًّا، بقصد الضغط عليه ليوقف عدوانه في غزة.
وفي جامعة ويسونكسون ميلووكي، قاطع أحد الطلاب من المؤيدين لفلسطين، مرشحة الرئاسة الأمريكية كامالا هاريس وهي تلقي خطابا، مستنكرًا الدعم الأمريكي للكيان المحتل، وفي العاصمة البريطانية لندن أغلق أنصار فلسطين جسر لندن في خطوة احتجاجية لوقف العدوان الإسرائيلي المتصاعد على غزة.
موقف حر
في هذا الوقت كان للصحفية التونسية جيهان النصري موقف حر من سياسة قناة العربية السعودية، إذ أعلنت الصحفية انسحابها من العمل مع موقع “الحدث التونسي” التابع لقناة “العربية”، احتجاجًا على الخطاب التحريضي الذي تتبناه بعض القنوات السعودية ضد المقاومة الفلسطينية.
النصري، التي عملت في إنتاج قصص صحفية مصورة من مناطق متعددة في تونس، قررت هذا الانسحاب بعد بث قناة “MBC” – التي تنتمي “العربية” إلى مجموعتها الإعلامية – تقريرًا يتضمن تهجمًا على المقاومة الفلسطينية وقياداتها، ووصم رموزها، مثل الشهيد القائد يحيى السنوار، بعبارات مثل “القتلة والإرهابيين”.
وعبّرت النصري عن رفضها لهذه التوصيفات، معتبرة أن إطلاق صفة “الإرهابيين” على أبطال المقاومة يُعد مسًّا بكرامة الشهداء والمدافعين عن حقوقهم، وأضافت: “إزاء عجزنا عن تقديم إسناد فعلي للمقاومة، نحاول على الأقل إرضاء ضمائرنا بتقديم شيء بسيط لدعم صمود أهلنا في فلسطين”.