ثورة 21 سبتمبر ونهج السلم والشراكة (الحلقة الأولى)

|| تقرير ||  أنس القاضي

 

كان اتفاق السلم والشراكة 2014م حدثاً غريباً بالنسبة للقوى السياسية اليَمَنية، فطوال التاريخ اليَمَني الجمهوري، من بعد ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962م شمالاً والاستقلال الوطني 30 تشرين ثاني/ نوفمبر1967م جنوباً، حتى 11 شباط/فبراير 2011م، لم يسبق التوصل إلى اتفاق مماثل، ولم تقدم القوى المنتصرة والصاعدة إلى السُلطة في مختلف الحروب والانقلابات والحركات التصحيحية على انتهاج السلم والشراكة تجاه خصومها أو حلفائها، كما فعلت قيادة ثورة 21 سبتمبر في خطاب انتصار الثورة والذي مثل انتصاراً للسلم والشراكة.

بخلاف الإرث التاريخي اليَمَني من الدماء والإقصاء، جاءت ثورة 21 أيلول/سبتمبر بممارسة جديدة، ففي يوم انتصارها في 2014م، دعت إلى السلم والشراكة التي تخلوا من أي مصالح خاصة بأنصارالله كمكون على حساب الوطن اليَمَني والمصالح المشروعة لبقية المكونات، اتفاقية السلم الشراكة هي ما ميزت ثورة 21 أيلول/سبتمبر، لذا سارعت كل القوى السياسية اليَمَنية إلى مباركة اتفاق السلم والشراكة والتوقيع عليه، ولم تجد أي قوى سياسية إجحافاً في بنود اتفاق السلم والشراكة، وإن كانت بعض القوى والشخصيات السياسية لم تؤمن بالسلم والشراكة وتريد بدورها إقصاء الآخر، إلا أنها اضطرت إلى التوقيع والإشادة بالاتفاق، وهذه القوى التي لم تؤمن باتفاق السلم والشراكة، كان يُفترض أن تقصى وفق العرف الثوري، وهم اليوم مَن يقاتلون مع العُدْوَان، وصدرت بحقهم أحكاماً بالخيانة الوطنية ومصادرة أموالهم والحكم عليهم بالإعدام وهو ما كان متوقعاً أن يتم يوم 21 أيلول/سبتمبر 2014م لو أن قوى أخرى غير أنصارالله من كان القائد للثورة الشَّعْبية. وهي إجراءات مبررة وضرورية من أجل ترسيخ الثورات “فالحرب الأهلية” بين قوى الثورة وأعدائها، سنة تاريخية رافقت كل الثورات في التاريخ الإنساني كالثورة الفرنسية والروسية والصينية وغيرها، وعدم إقدام أنصارالله على إقصاء هذه الأطراف والشخصيات المعادية لم يؤد إلى استتباب السلام فقد قامت بدورها بتفجير الحرب  بطابعها التكفيري الرجعي وبالتعاون مع دول تحالف العُدْوَان.

تحديات اتفاق السلم والشراكة

 

لم يكن اتفاق السلم والشراكة حيلة من خارج القناعة السياسية لأنصارالله، بل انعكاس لها تجلت هذه الميولات لأنصارالله بشكل واضح في الاتفاقيات بينهم وأبناء المناطق الريفية بعد الإطاحة بمشيخات الأحمر، وكذلك الاتفاقات السابقة للإطاحة بمشيخة الأحمر، كانت كلها تؤكد على المسائل الديمقراطية، من أمان حُرية التنقل، وحرية الفكر واحترام الرأي، ومزاولة الأنشطة الثقافية بشكل سلمي، وحرية الانتماء والتعددية السياسية.

إلى جانب قناعة قائد الثورة بالسلم والشراكة الوطنية، فالتركيبة  الاجتماعية الشَّعْبية لأنصارالله جعلتهم يتبنون هذا الاتفاق إذ لا يرون بأن ذلك سوف يُفقدهم أي مصلحة، ولن يخسروا منه شيئاً، على عكس القوى الأخرى المسيطرة والمتسلطة والمالكة الاحتكارية في اليمن التي ترى في هذا الاتفاق تهديداً لمصالحها الفاسدة غير المشروعة، وهذا الأمر تنبه له قائد الثورة واعتبر أنه سيكون أحد أبرز التحديات التي ستواجه اتفاق السلم والشراكة:

  ” المرحلة القادمة لا يمكن أن يقف فيها ضد تنفيذ ما تم الاتفاق عليه إلا الفاسدون أولاً لأنهم يعتبرون أنفسهم متضررين من حزمة الاجراءات الاقتصادية، أيضا أصحاب منهج الاقصاء والاستبداد من لا يقبلون بالشراكة، من يعتبرون أنفسهم متضررين من الشراكة، لا شك أن المرحلة وهي مرحلة انتقالية يجب أن تبنى وتقوم على مبدأ الشراكة، والمرحلة هي مرحلة بناء دولة بناء دولة عادلة، هذا يتطلب تظافر الجميع، تظافر الجهود من الجميع، وتعاون الجميع وتكاتف الجميع، أصحاب منهج الاقصاء هم أيضاً مستبدون، هم من يحرصون على الاستبداد ومصادرة حقوق الآخرين والاستئثار بكل شيء “.

السيد عبد الملك الحوثي “خطاب انتصار الثورة”، 23 أيلول/سبتمبر 2014م.

 

فرض السلم والشراكة مهمة الثورة

قامت ثورة 21 أيلول/سبتمبر بإزاحة النخب المتسلطة التي كانت تاريخياً تعارض أي انتقال سياسي وأي تطور وتقدم في المجتمع اليَمَني، التي انقلبت سابقاً على اتفاقية العهد والاتفاق  واتفاقية الوحدة  -بالتعديلات الدستورية غير الشرعية- وتآمرت على ثورة 11 شباط/فبراير ورفضت تنفيذ النقاط العشرين ورهنت البلاد للهيمنة السعودية الأمريكية؛ فبإضعاف وإزاحة هذه القوى وتفكيك عوامل قوتها فتحت الآفاق رحبة أمام التطور الاجتماعي الاقتصادي السياسي في اليمن، وهذه هي المهمة الأساسية لثورة 21 أيلول/سبتمبر في بُعدها المحلي.

البعد  الاجتماعي لثورة 21 أيلول/سبتمبر، الذي انعكس في اتفاق السلم والشراكة ينبع من مضمون الثورة السياسي الاقتصادي بتبنيها مصالح أغلب طبقات وشرائح وفئات المجتمع اليَمَني جنوباً وشمالاً، التي تأثرت بقرار الجرعة وكانت تعاني من الوضع السائد. كانت الجرعة هي المصادفة التي مثلت شكل ظهور الضرورة في التغيير الشامل وتحطيم مراكز القوى المهيمنة ولو لم تأتِ الجرعة لجاء حدث آخر يؤدي إلى اندلاع الثورة، وهذه المصادفة لا تعني انعدام السببية فقد تم إقرار الجرعة نتيجة السياسات والممارسات الاقتصادية الفاسدة واللبرالية التي تعيد إنتاج الفقر بما يؤمن حُكم الأقلية الاستبدادية المُسيطرة.

تكتسب الثورة وطنيتها من انتصارها على مراكز النفوذ التي أعاقت حركة التقدّم الاجتماعي، ولضربها “حكومة الوفاق” التي انتهجت المحاصصة بين أطراف “المبادرة الخليجية”، وكذلك في إضعاف المرتكزات العسكرية التنظيمية الأيدولوجية للنخب القديمة، وهي بمجملها سلطة ببنائها التحتي والفوقي تشكلت عن فسادها حالة قناعة موضوعية، وإجماع عام لدى المجتمع اليَمَني والدولي، وهوَ ما جعل من إسقاطها مهمة ديمقراطية ثورية، كما أن ثورة 21 أيلول/سبتمبر في بعدها الاقتصادي تمهد لفتح البلاد أمام التطور الرأسمالي الإنتاجي وتحديث الهياكل الاقتصادية والبنى الاجتماعية التي تم عرقلة تطورها، بالقضاء على النخب التي جيرت أجهزة الدولة المدنية والعسكرية لمصالح فئوية، في حزبي المؤتمر والإصلاح، وتحجيم قواهم العسكرية الخارجة عن جهاز الدولة والتوجه نحو فصل هذه النخب عن الثروة الوطنية ومنع ممارساتها الاقتصادية غير المشروعة قانونياً، وهذه هي شروط تحقق الشراكة والمنافسة وهي مهمة الثورة على المستوى الاجتماعي الاقتصادي، وترتبط بديموقراطية الثورةو وطنيتها، من حيث السعي إلى استكمال تحرير القرار الوطني، وإزالة الهيمنة الأجنبية هو شرط لضمان الشراكة الوطنية.

السلم والشراكة كان ضرورة

 

جاء اتفاق السلم والشراكة ملبياً للضرورة التاريخية المتمثلة في الحاجة إلى رص صفوف اليَمَنيين وتوجيه كل الطاقات إلى البناء متوافقاً مع دعوة قديمة أطلقها جار الله عمر عقب حرب صيف 94 كما جاء الاتفاق ليُعيد المسار السياسي في اليمن إلى مجراه، وذلك بالتأكيد على إصلاح الانحرافات والممارسات غير التوافقية التي تمت بشكل استبدادي من قبل رئيس مؤتمر الحوار الوطني الخائن ” هادي”.

كان قد شاب عملية مؤتمر الحوار الوطني تجاوزات عديدة مخلة بمسار الحوار الوطني، قام بها ” عبدربه منصور هادي”، وكانت مؤشراً على عدم قناعته ومن خلفه الأمريكيين بمبدأ التوافق والحلول الوطنية، وتحويل مؤتمر الحوار مجرد احتفالية شكلية لإضفاء الطابع الوطني على التوجهات العُدْوَانية التي كانت تُفرض على الشَّعْب، ومن أبرز هذه التجاوزات، عدم تشكيل المؤسسات التنفيذية والتشريعية المعنية بتنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني كما نصت على ذلك وثيقة الضمانات، بحيث تلتزم في تشكيلها بمبدأ الشراكة الوطنية الواسعة، ومبدأ التوافق ومبدأ إرساء نظام الحكم الرشيد، ومن تلك المؤسسات “الحكومة الوطنية” الجديدة وتوسيع مجلس الشورى لاستيعاب القوى المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني وخاصة القوى الأساسية التي ليس لها تمثيل (أنصار الله والحراك الجنوبي).

التجاوزات في مؤتمر الحوار الوطني

كان من أخطر التجاوزات في مؤتمر الحوار الوطني هو ما يتعلق بالهيئة الوطنية المعنية بالإشراف والرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار الوطني، فقد ظل “هادي” يرفض إصلاح وضعها حتى مرحلة ما بعد اتفاق السلم والشراكة، فمن المفترض أن لهذه الهيئة التوافقية سلطة الرقابة والإشراف والمتابعة على كل المؤسسات التشريعية والتنفيذية في البلد بما فيها مؤسسة الرئاسة والبرلمان فيما يتعلق بتنفيذ مخرجات الحوار الوطني، ولذلك فقد تم تأجيل تشكيل الهيئة الوطنية والقيام بتمرير قرارات بعيداً عن إشرافها ومتابعتها، منها قضية تقسيم الأقاليم ومنها إقرار المصفوفة التنفيذية المزمنة الخاصة بمخرجات الحوار وغيرها من الإجراءات المتعلقة بالمخرجات كل ذلك قبل تشكيل الهيئة كما أن لجنة صياغة الدستور انتهت من المسودة الأولية للدستور دون أي رقابة عليها من قبل هذه الهيئة الوطنية المفترضة والتي لم يتصحح وضعها ولم ترجع إليها القرارات التي حسمت قبل تشكيلها.

خالفت لجنة تحديد الأقاليم المهام التي حددتها لها وثيقة الحل العادل للقضية الجنوبية والقرار الرئاسي القاضي بتشكيلها فقد نصت وثيقة حل القضية الجنوبية وكذا القرار الرئاسي القاضي بتشكيل اللجنة على: “وجوب أن تدرس اللجنة خيار ستة أقاليم أربعة في الشمال واثنين في الجنوب وخيار الإقليمين وأي خيار ما بين هذين الخيارين يحقق التوافق” وما حصل كان خلاف ذلك حيث حصرت اللجنة عملها في خيار الستة الأقاليم ورفضت النقاش حول الخيارات الأخرى وذلك من أجل فرض الخيار المعد سلفاً. كما تم فرض هذا الخيار غير التوافقي على لجنة صياغة الدستور، حيث ألزم القرار الرئاسي القاضي بإنشاء وتشكيل لجنة صياغة الدستور على اللجنة العمل تحت إطار مخرجات لجنة تحديد الأقاليم التي خالفت مخرجات الحوار الوطني الشامل.

كما تم عرقلة بعض الاستحقاقات والالتفاف على بعضها الآخر منها إصدار قرار جمهوري بإنشاء صندوق موحد لرعاية أسر شهداء وجرحى الثورة الشبابية والحراك السلمي وحرب 94 وحروب صعدة والقضية التهامية ومن كل الأطراف التي شاركت في تلك الأحداث بحيث يتم التعامل مع الجميع بمعايير موحدة كما نصت عليه المادة 44 من مقررات قضية صعدة، ولكن في الواقع صدر قرار جمهوري بإنشاء صندوق خاص بشهداء وجرحى الثورة الشبابية والحراك السلمي الجنوبي مع تجاهل شهداء وجرحى محافظة صعدة. وعدم إعادة المبعدين والمفصولين وظائفهم ومن تم نقلهم نقلاً تعسفياً وتسليم مستحقاتهم الموقوفة وحقوقهم القانونية في الترقية والعلاوات كما نصت عليه المادة 9من مقررات قضية صعدة فلم ينفذ منها شيء حتى انتصار الثورة. ومنها أيضاً سرعة استيعاب ودمج أبناء صعدة والمحافظات المتضررة من الحروب في كل أجهزة ومؤسسات الدولة أسوة بأمثالهم من القوى السياسية في الفترة الانتقالية كما نصت عليه المادة 32 من مقررات قضية صعدة، ولم ينفذ منها شيء حتى انتصار الثورة.

هذه وغيرها من التجاوزات الصريحة والممارسات التخريبية المباشرة من قبل “هادي” والنخب الحاكمة والسفير الأمريكي، كانت بحاجة إلى عملية إصلاح وعملية الإصلاح هذه لم تكن لتأتي نتيجة صحوة ضمير “هادي” بل بضغط شعبي ثوري، وقد كان أنصارالله هم القوة السياسية الوحيدة القادرة على إزاحة هذه القوى الاستبدادية الاستغلالية الفاسدة، وقيادة مشروع التغيير في ذلك الظرف، وهذا الأمر يعود إلى عاملين ذاتي وموضوعي، الذاتي هي قناعة أنصارالله بأن البلد لا يُمكن أن يحكمه طرف بمفرده وأنه بلد الجميع فهو ما أكد عليه قائد الثورة في خطاب انتصار الثورة:

 “في هذا السياق أيضاً هناك جملة من العوامل المهمة المساعدة على التغلب على التحديات أولها الإيمان بالشراكة والإيمان أيضاً بالعدالة، حينما تؤمن المكونات والقوى السياسية بمبدأ الشراكة وأنه بات ضرورةً إلى هذا المستوى بات ضرورةً لإصلاح الوضع في بلدنا، وبات أساساً متفقاً عليه، بات أساساً مقراً من الجميع لإدارة شؤون هذا البلد، الإيمان بالشراكة وأنها هي التي تجسد العدالة، ويمكن أن تكون هي قواعد للعدالة، لأنه لا يمكن في مثل هذه الظروف وهذه المرحلة أن يأتي طرف ما ليفرض نفسه على كل الشعب اليمني في مرحلة هي مرحلة بناء دولة، فالإيمان بالشراكة والتجسيد لقيم العدالة يمكن أن يسهم إلى حد كبير في تحقيق الإنجازات الكبرى”.

خطاب انتصار الثورة”، 23 أيلول/سبتمبر 2014م