حينما يُقر ترامب بعجزه ويستجدي تحالفاً جديداً ضد اليمن
حتى وقت قريب وتحديدا في عملية السابع من أكتوبر البطولية الاستثنائية، ودخول اليمن بعملياته الإسنادية إلى جانب غزة، كان العالم يخطب ود “أمريكا”، فما كانت واشنطن تقوله من قول أو تدعو إليه من أمر أو تطلب تنفيذه، إلا وكانت دول العالم تسارع إلى تأييد تصريحاتها أو تتبنّى أفكارها أو تنخرط ضمن توجهاتها، دون حتى أن تستبين معنى وعاقبة طرحها، إما طمعا في البقاء تحت مظلتها أو اتقاء لشرها.
لا يبدو الأمر اليوم على ما كان عليه قبلا، وقد كشفت أمريكا عن حقيقة وجهها القبيح في تعاطيها مع كل العالم من زاوية المصلحة الخاصة ومقدار ما يمكن أن تجنيه من أي تحرك، بغض النظر عما يمكن أن يلحقه توجهها من أضرار لهذا العالم.
الفرار من الفشل إلى توريط الآخرين
قبل وقت قليل حاولت أمريكا توريط حليفاتها من الأتباع لتشكيل تحالف عدواني بحري بقصد مواجهة اليمن، وبصعوبة بالغة شكلت تحالفاً لم نرَ منه إلا الاسم، إذ كانت هي وبريطانيا فقط الحاضرتين في محاولات حماية الملاحة الصهيونية، وقد فشلتا فشلا ذريعا. جاء الأمر حينها عقب فشل ملحوظ في إبراز العضلات منفردة بقصد تعزيز قوتها الوهمية في الذهنية الدولية، إضافة إلى توريط دول أخرى في تحمل كلفة القيام بالدور الهادف لحماية كيان احتلالي يمارس كل صنوف الشر والإجرام ضد شعب مستضعف أعزل.
اليوم تعيد أمريكا -بقيادة الساذج ترامب- المحاولة مرة أخرى في قياس لاستمرار الهيبة “المرعبة” للآخرين، فبعد أن فشل تحالف حماية ملاحة “إسرائيل”، عاد ترامب ومن برجه العالي المناطح للسحاب ليطلب تشكيل تحالف جديد ضد اليمن.
الدعوة للتحالف الجديد تأتي مزامنة عواصف فوضوية ولّدها ترامب بسبب قراراته الهوجاء ضد كل دول العالم، وكان آخرها فرض رسوم الجمارك على أكثر من (200) دولة وجزيرة. كما تأتي بعد فشل أمريكي عارم في إحداث أي تغيير على المعادلة البحرية التي فرضتها القوات المسلحة اليمنية وأمكن لها من خلالها ضرب عمق الكيان والاستمرار في فرض الحصار البحري عليه.
ترامب بدعوته هذه المرة يعيد الكَرّة بتوريط الآخرين معه في أمر لا مصلحة لهم فيه، ولكنه يريد بذلك تخفيف ثقل الفشل عنه، وأيضا تخفيف الكلفة المادية التي باتت تهدد باستنزاف ما ينهبه من الجانب الآخر من أموال الدول، في عمليات عقيمة في اليمن، يهاجم معدات لتقطيع الصخور ويزعم أنها منصات صواريخ، ويقتل مدنيين ثم يروج بأنهم قادة ميدانيون.
أوروبا لا تؤيد العمل العسكري ضد اليمن
ظن ترامب أن تأثير حضور بلاده مع ما ابتدعه من قرارات، كفيل بأن يجعل الآخرين يتسابقون من أجل تحويل رغباته إلى حقيقة، وهو ما يؤكد عُقْمه السياسي، ونجاحه فقط في رسم تفاصيل بلطجة جديدة لا تحتكم بطبيعة الحال إلى أي ثوابت أو قيم أو أخلاق، فجاءت النتيجة على غير ما يشتهي أو يظن، ليمثل الحدث مؤشرا واضحا على أن ذلك الحضور القوي المؤثر والموجِّه، قد ضاع بريقه.
وقبل أيام كشفت مصادر دبلوماسية غربية مناقشة وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو مع عدد من مسؤولي الدول الغربية المشاركة بحلف شمال الأطلسي “الناتو” فكرة الانضمام لتحالف دولي جديد في اليمن بذريعة حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر. وهذه التحركات تأتي عقب إثارة ترامب لموضوع ضرورة مشاركة دول العالم -وتحديدا الأوروبيين- بلاده في حربها على اليمن مدعيا أنه يقدم خدمة للعالم بمواجهته للقوات اليمنية.
الأوروبيون الذين كانت لهم من قبل تجربة تشكيل تحالف “أسبيديس” في البحر الأحمر وفشلوا فيه، أبدوا التحفظ على الطلب الأمريكي، فالتحرك العسكري ضد اليمن لن يقود إلى نتيجة. وفي تصريح صحفي قال أمين عام حلف الناتو إن الناتو يتفهم المخاوف الأمريكية بشأن المحيطين الهندي والهادي، لكنه أكد وجود أولوية للحلف في إشارة إلى الحرب الروسية الأوكرانية والتي باتت تهدد دوله في أوروبا.
كان على ترامب أن يتوقع مثل هذه النتيجة. صحيح أنه قد يمارس ضغوطا انتهازية كي يضمن تشكيل التحالف الجديد، لكنه إن حدث فلن يستمر، خصوصا وأن الجاهل ترامب قد عمد إلى مذبحة الرسوم الجمركية، ما جعل من أمريكا دولة منبوذة تحتكم إلى فرض رغباتها كيفما كانت، ولا تحمل أي وّد أو احترام لأي دولة بما فيها الدول الحليفة والشريكة.
إجراءات ستعصف بأمريكا
بقراءة خلفية التوجه الترامبي لتجريب المجرب، يتضح بشكل جلي، أن الرجل يسير بلا رؤية ولا استراتيجية، فقط مجرد “تصانيف”، تتوارد إلى ذهنه فكرة ما ويتصورها كفيلة بتحقيق قدر إضافي من المكاسب “الاقتصادية” لبلاده، فيذهب مباشرة إلى تنفيذها. ومنذ مجيئه إلى البيت الأبيض -وهو زمن قصير- أغرق بلاده في كثير من الورطات بما فيها موضوع الرسوم الجمركية الذي يُتوقع أن يعصف بحضورها الدولي.
السياسة العشوائية لترامب يشعر بها الشعب الأمريكي ونُخَبُه السياسية والاقتصادية، ولذلك لا يستغربون هذا الهجوم المتواصل على بلادهم في وسائل الإعلام على مستوى العالم، ويخشون أن يقودهم إلى الهاوية بسبب “تصانيف” ترامب.
ويُذكرنا ترامب بـغورباتشوف الذي وضع لبلاده سياسة معينة في مسعى لتحقيق الصدارة إلا أنها انتهت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثل كتلة دولية توازي ما عليه أمريكا. ترامب يعيش اليوم ذات الدور، ولذلك بالقياس على زمن ثلاثة أشهر فقط من فترة رئاسته يمكن توقع ما يمكن أن يصير عليه الوضع حتى نهاية 2029.
غرق أكثر في مستنقع الاستنزاف
يدرك ترامب أنه خلال ما يقارب الشهر من حملته العسكرية ضد اليمن، والتي وُصفت بالأكثر شمولا والأوسع منذ عقود، كانت فاشلة، لذلك لجأ إلى فكرة تحريض العالم للانخراط معه في هذه المغامرة العقيمة. ولم ينتظر ترامب حتى نتائج التداول الإعلامي الأمريكي الذي فتح ملف هذه الحملة العدوانية وما حققته من نتائج.
وبالنظر إلى ما يُقر به الأمريكان أنفسهم، يتبين أن أمر إرغام اليمن على وقف عملياته الإسنادية للفلسطينيين فيما العدو الإسرائيلي يستمر في حرب الإبادة في غزة أمر مستحيل. تؤكد ذلك مراحل التصعيد الخمس التي خاضتها القوات المسلحة ضد الكيان الإسرائيلي وملاحته وداعميه خلال المرحلة السابقة من العدوان الإسرائيلي على غزة، ما يعني غرقاً أكثر في مستنقع الاستنزاف بلا نتائج.
تنقل شبكة “سي إن إن” عن مسؤولين في وزارة الدفاع الأمريكية تأكيدهم باستنزاف الحملة في اليمن على مدى 3 أسابيع فقط لنحو مليار دولار، وهي نصف الموازنة التي اعتمدها الكونجرس في عهد الرئيس السابق جو بايدن لتمويل العملية العسكرية الأمريكية في البحر الأحمر مطلع العام الماضي.
وربما هذا ما يبرر اندفاع ترامب للحديث عن استهدافه قيادات كبيرة في اليمن وتدميره نسبة كبيرة من قدرات اليمن العسكرية -حسب زعمه- في محاولة لكسب تأييد الشارع الأمريكي للحملة العدوانية، خصوصا مع اتساع المظاهر الاحتجاجية ضد سياسته الاقتصادية والعدوان على غزة واليمن، وهي أيضا تمهيد لإقناع الكونجرس من أجل تمرير موازنة جديدة للحملة.
ويعي الشارع الأمريكي بأنه لن يكون بمقدور ترامب فعل أكثر مما فعله، إلا أن الكونجرس الأمريكي ربما يمرر الموازنة تحت عناوين الأمن الأمريكي والمصالح الأمريكية، وحتى الهيبة الأمريكية التي حطمتها القوات المسلحة اليمنية.
وأيّاً كانت النتائج فإن الأكيد أن اليمن لم يَبْنِ موقفه الإسنادي من الأساس على حسابات مواقف الآخرين أو ردود الأفعال أو تهيّب ما يمكن أن تنفذه أمريكا. حتى مع زحف حاملات الطائرات الأمريكية الأضخم وتوابعها إلى مياه المنطقة.