تلاشي مشروع الدولة السورية بين احتلالين: “الإسرائيلي” والتركي

– تمهيد:
تقول الجماعات التكفيرية الحاكمة إن إجراءاتها بسحب السلاح ومنع تشكيل مواجهة شعبية للعدو إنما تهدف لتفادي خلق أي ذريعة قد تستغلها “إسرائيل” لتبرير تدخلاتها العسكرية، بينما وعلى أرض الواقع يواصل الإسرائيلي توسعاته دون الحاجة لأي مبرر ولا ذرائع، وهو ما يعلنه صراحة كبار مسؤوليه وصغار جنوده وضباطه، وآخرهم ما ذكره المتحدث باسم “جيش” العدو “أفيخاي” أدرعي على أن “وجود إسرائيل في العمق السوري ليس تدخلًا في الشأن الداخلي، بل هو ضمان للأمن الإسرائيلي”، وهو التصريح الذي يختزل جوهر السياسة الإسرائيلية القائمة على التوسع والتدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة تحت ذرائع أمنية واهية، ويُسقط الذرائع التي يتلطّى خلفها الجولاني وجماعاته التكفيرية، ما يضعهم في موقف ضعيف وحرج أمام أهالي الجنوب الذين يترقبون بقلق بالغ انتهاكات العدو وسياساته الاستيطانية.

توغلات غير مسبوقة، هل بدأ العدو الإسرائيلي مرحلة جديدة في سوريا؟!

تتصاعد وتيرة النشاط العسكري لقوات العدو الإسرائيلي في منطقة القنيطرة، والذي بات يتخذ منحى تصعيديًا توسعياً، يثير استياء الأهالي، ويدعو للتساؤل حول الصمت الذي لا يزال يعم مواقف الجماعات التكفيرية الحاكمة لسوريا، ففي استمرار لعملية التوسع الكبير في الجنوب السوري، تجاوزت دوريات العدو الإسرائيلية النمط المعتاد، حين توغلت دورية مؤلفة من دبابتين وأربع مركبات عسكرية في محيط بلدة كودنة، وهو ما وصفه السكان المحليون بـ”التحرك غير المسبوق” من حيث الحجم والنطاق، والذي ترافق مع تحليق مكثف لطائرات الاستطلاع، ما يوحي بدخول عمليات التمدد العسكري مرحلة جديدة تتجاوز ما كان يُظنّ أنها نقطة نهاية الأطماع الإسرائيلية في سوريا.

يأتي هذا التصعيد الميداني في أعقاب قيام قوات العدو -في يوم سابق- بفرض طوق عسكري خانق على منطقة “طرنجة – حضر”، وإغلاق طريق “حضر – حرفا” المؤدي إلى ريف دمشق، بالتزامن مع تحليق مكثف للطائرات المسيرة (إجراءات تشبه طريقة الحواجز الأمنية التي عادة ما يصنعها في الضفة الغربية المحتلة)، وقد رجحت مصادر أهلية أن هذه الإجراءات العسكرية تهدف إلى تنفيذ حملات دهم وتفتيش واسعة النطاق، طالت بعض منازل قرية طرنجة، وسط حالة من الترهيب المتعمد التي مارستها قوات العدو عبر إطلاق النار العشوائي، ودون أي إعلان رسمي عن أسباب الحصار أو القيود المفروضة على حركة المدنيين، ما يؤكد فعلياً انتقال العدو في مخططاته إلى مستوى جديد يُكرّس وجوده العسكري كأمر واقع، ويضع سوريا أمام حقيقة لا مفر لهم منها: تقاسم الكعكة بين التركي و”الإسرائيلي”.

Video Player

00:00
00:00

هذا النشاط العسكري الإسرائيلي المتزايد يتزامن مع حالة من التوتر المتصاعد في العلاقات التركية الإسرائيلية، حيث تتصارع المصالح والنفوذ في الساحة السورية. ففي الوقت الذي تسعى فيه أنقرة إلى ترسيخ موطئ قدم لها في سوريا وتحويلها إلى منطقة نفوذ تخدم مشاريعها الإقليمية، ترى “إسرائيل” في هذا التوسع التركي تهديدًا لأمنها ومصدر قلق بالغ على حدودها الشمالية، وهو ما دفعها إلى توجيه دعوة مبطنة إلى الولايات المتحدة للتدخل والقيام بدور الوسيط لضبط إيقاع التنافس المتصاعد بينهما، بمعنى أن مشروع الدولة السورية القائم على الحفاظ على وحدة الأراضي والسيادة الكاملة للدولة انتهى فعلاً على وقع الصراع المتصاعد بين “الإسرائيلي” والتركي برعاية أمريكية وبتجاهل عربي رسمي.
وقد تجلى هذا التوجه في المحادثات التي جرت مؤخرًا بين الجانبين في باكو، والتي وصفها مسؤول في كيان العدو الإسرائيلي بـ”المتفائلة للغاية”، مؤكدًا استعداد الكيان لقبول “احتفاظ تركيا بقاعدة عسكرية محدودة داخل الأراضي السورية”، وهو العرض الذي قوبل بتحفظ تركي عبر حصر دواعي القلق التركي في التهديدات الإرهابية المتمثلة بتنظيمي داعش وحزب العمال الكردستاني، وفقًا لما أورده “المسؤول الإسرائيلي”.
يتفاعل المخطط أكثر مع احتدام المنافسة على اقتسام الكعكة السورية في ظل تعامٍ تام من قبل الجماعات التكفيرية، في هذا السياق المعقد كشفت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أن دعم الرئيس الأميركي دونالد ترامب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان “يقيد أيضًا قدرة إسرائيل على المناورة” في سوريا، مشيرة إلى أن ترامب قد أوضح خلال لقائه الأخير مع رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، في البيت الأبيض، استعداده “لمساعدة العدو الإسرائيلي في التعامل مع تركيا”، وهو ما يعكس لعبة التجاذب والتنافس الجارية بالمكشوف بعيداً عن كل دعايات ما تُسمى الثورة السورية التي اغتر بها الكثير وروجوا لها كنموذج ناجح عن حكم الأسد، بل ويمكن تصديره وتعميمه إلى عموم المنطقة.
في مقابل هذا السُعار التركي “الإسرائيلي” تتجه الجماعات التكفيرية في اتجاه مضاد، حين تؤكد حرصها على تطبيق سياسة التهدئة والاحتواء، عبر التأكيد المتكرر على أنها لن “تشكل مصدر تهديد لأحد” ضمن رسائل انبطاحية متماهية مع توغل العدو الإسرائيلي في سوريا.

تحركات بالمقلوب لتطيمن المحتل

وفي هذا المسعى، تحاول “دمشق الجديدة” تنويع شراكاتها الإقليمية والدولية، في مسعى لكسب الشرعية والاعتراف الدولي، لكن بالاعتماد على تركيا كشريك أساسي، بالرغم من أن تصرفات تركيا الحقيقية تظهر أنها قوة محتلة لا تقل خطورة عن العدو الإسرائيلي أكثر من كونها شريكاً كما تصر الجماعات التكفيرية على معاملتها، في سياق يحاول إرضاء الولايات المتحدة الداعمة للتحركات “الإسرائيلية”، وذلك قبل أن يتم ترسيم “الخطوط الحمراء” النهائية في معادلة موازنة المصالح المتضاربة.
أكثر من ذلك وفي سياق متصل بمساعي مواجهة أي تهديد أو تحدٍّ قد يواجهه العدو الإسرائيلي داخل الأراضي السورية، عُقد اجتماع موسع بين الفصائل الفلسطينية والإدارة العملياتية العسكرية لإدارة الجماعات التكفيرية الحاكمة، وذلك في مخيم خان الشيخ، وقد جاء هذا الاجتماع على خلفية دعوات بريئة دعت إلى تحرك شعبي نحو الجولان ودرعا، من قبيل تذكير السلطات بواجبها تجاه توسعات العدو الإسرائيلي، أو تشكيل قوة مقاومة شعبية تقوم بالواجب نيابة عن سلطات الأمر الواقع، غير أن الأخيرة وصفت التحركات بأنها “مغرضة”، وعمدت الى تحرك استباقي لمنعها، بذريعة تجنب أي احتكاك أو تصعيد قد يؤدي إلى خسائر بشرية، أو يستغله العدو الإسرائيلي، هذا التحرّك الاستباقي -الذي لا يوجد له تفسير سوى حماية العدو الإسرائيلي- بدأ باكراً حين قررت الجماعات التكفيرية قبل أشهر -أي بعد فترة وجيزة من سيطرتها- منع أي مظهر مسلح داخل المخيمات الفلسطينية تحت أي ذريعة، وحظر حيازة السلاح “خارج الأطر الرسمية التابعة للدولة السورية”.