البحرية الأمريكية: خسائر بالجملة وإقرار بالتجزئة

 

بين الإنكار الكلي والاعتراف المجزأ، تُدير الإدارة الأمريكية معركة البحار إعلاميًا مع القوات المسلحة في اليمن، وهي معركة تتصاعد مجرياتها بشكل دراماتيكي مثير، لكن المؤكد على الأقل من التسريبات والتصريحات المتكررة لضباط البحرية الأمريكية أن ما تواجهه البحرية الأمريكية أكبر بكثير من مجرد اشتباك ناري لحظي. فالمعركة، وفق تقييم المهتمين الأمريكيين أنفسهم، تكشف بشكل فاضح عن نقاط ضعف القوة الأمريكية التي لطالما اعتد وتباهى بها الرؤساء والقادة الأمريكيون باعتبارها وسيلة لتنفيذ الدبلوماسية الأمريكية وفرضها في العالم.

 العقيدة البحرية الأمريكية ذاتها قائمة على أن “الدبلوماسية البحرية هي تطبيق القدرات البحرية في السعي لتحقيق الأهداف الوطنية أثناء التعاون والمنافسة تحت الصراع”.

 ويعتبرها القادة الأمريكيون المؤسسون الأوائل جوهر العلاقات الدولية ودرة تاج القوة الأمريكية. ولعل أوضح ما يبين هذا الجانب، هو التصريح الشهير لعميد الدبلوماسية الأمريكية، الدبلوماسي المخضرم “هنري كسنجر”، بوصفه الحاملة أنها تعادل مئة ألف طن من الدبلوماسية.

تجليات الموقف اليمني 

لا مكان للخوف في العقل اليمني الذي يدير هذه المعركة ويخوضها بشجاعة لا مثيل لها, هذه الجرأة تنطلق من دوافع إيمانية ترتقي بالمعركة إلى مستواها الحضاري وبأبعاد وجودية، من واقع أن نتائج هذه المعركة حاسمة في تحديد تموضع الأمة عمومًا, فضلاً عن ثمار استعادة أدنى حقوقها الإنسانية ولوازم وجودها الحضاري المحترم، والتي يستحيل تحقيقها بغير وسائل القوة وأدوات بسط النفوذ. ولعل في مخرجات قمة “المطالبات” الموصوفة هزلاً بـ “الاستثنائية” ما يؤكد هذه الحقيقة ويدحض ما سواها من السبل والوسائل والأدوات والطرق والأساليب والمناهج المجترحة والمجربة – معنا نحن العرب- على مدار عقود من الزمن، ومع سوانا من الأمم والشعوب التي عاشت تجارب مماثلة ولم يتحقق لها التحرر ويتأتى لها الاستقلال إلا بالقوة.

يدرك الأمريكي هذه التداعيات الاستراتيجية للمواجهات الجارية، ويحاول جاهداً أن يخفيها أو يحد من تأثيراتها، على الأقل في اللحظة الراهنة، لذا يلجأ لتقسيط المعلومة وتجزئة الإقرار، وتسريبها على فترات زمنية وعبر قنوات غير رسمية وتوزيعها على ألسنة المتحدثين غير ناطق البنتاغون.

الخوف في أروقة البنتاغون 

في مطلع شهر مايو العام المنصرم، بدأت الاشتباكات اليمنية مع “أيزنهاور”، وإلى هذا اليوم لم تتوقف الأحاديث والتصريحات واللقاءات التي تملأ الأوساط الإعلامية الأمريكية عن تحديث تداعيات هذه العملية وتجديد ما يمكن اعتباره أسرار الاشتباك الموصوف أمريكياً أيضًا بغير المسبوق في تاريخ البحرية الأمريكية.

التقارير الأخيرة، بما في ذلك تلك التي أوردتها “أكسيوس”، على لسان وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون المشتريات والاستدامة بيل لابلانت، الذي تحدث في ندوة علمية باعتباره فيزيائيًا ومتخصصًا في مجال الصواريخ وقضى معظم حياته في هذا المجال، تحدث صراحة عن ما شاهده يؤكد امتلاك القوات المسلحة اليمنية أسلحة متطورة وبشكل متزايد، بما في ذلك صواريخ باليستية وصواريخ كروز.

 يعبر المسؤول الأمريكي الرفيع عن دهشته من تنامي هذه القدرات وعلى نحو أثار إعجابه وذهوله في آن واحد، ويضيف أن تراكم القدرة والخبرة التي ظهرت في عمليات اليمن الصاروخية تدفعه لشعوره بالخوف: “أصبحوا مخيفين”، ويعود ليجدد دهشته مما شاهده من أعمال قام بها اليمنيون في الأشهر الستة الماضية بوصفها أنها “مذهلة حتى بالنسبة لخبراء الدفاع”.

لعل في حديث “بالانت” الذي جاء بعد يوم من عملية استهداف الحاملة “لينكولن” في العربي ومدمرتين في الأحمر ما ينبئ بخسائر غير عادية لحقت بالقطع البحرية الأمريكية المستهدفة، بالنظر إلى طريقة تجزئة الاعتراف المعتمد من قبل واشنطن في نشر نتائج هذه العمليات تمامًا كما حصل مع “أيزنهاور” و”روزفلت” وغيرهما.

بينما تواصل الولايات المتحدة تقديم روايات تتعلق بنجاحها في الدفاع والتصدي للهجمات اليمنية، فإن التقارير تشير إلى صعوبة التعامل مع القدرات المتنامية لليمنيين.

 تقرير معهد البحرية الأمريكية يعكس هذه الحقيقة، حيث يذهب كاتب التقرير إلى أن اليمنيين، بعملياتهم البحرية المتكررة، يكشفون عن نقاط ضعف خطيرة في الأسطول الأمريكي، ويصف التقرير عمليات اليمن بأنها مزعزعة لمكانة القوة البحرية الأمريكية في المنطقة، ويتساءل عن جدوى العمليات البحرية الأمريكية، وكيف حولها اليمنيون إلى مجرد قطع قد تعجز حتى عن الدفاع عن نفسها فضلاً عن حماية ما يسميه الأمريكي “الملاحة الدولية”.

 ولا يستبعد أن تنتهي هذه المواجهات بفرض اليمنيين شروطهم (مع استمرار هذا الاتجاه في تنامي القدرات العسكرية اليمنية، قد يؤدي ذلك إلى تغييرات جذرية في المعادلات العسكرية في المنطقة، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للتكيف مع شروط اليمنيين).

الإهانة الكبيرة جدا 

 

بعد عملية “أبراهام لينكولن”، علق أحد المهتمين الصينيين “مختص بالشأن العسكري” في حديث مطول عن العملية بالقول:

“اليمنيون فيما مضى كانوا قد اشتبكوا مع حاملة الطائرات الأمريكية، بعد الهجوم الذي تعرضت له حاملة الطائرات “أيزنهاور”، ما أدى في الأخير لهروبها في يونيو الماضي، يبدو أنهم الآن يستهدفون حاملة الطائرات “لينكولن”. لكن هذه المرة: “الأضرار ليست كبيرة لكن الإهانة كبيرة جدًا؟” (عبارة مشهورة في الصين).

يضيف: “عندما رأيت هذا الخبر، اعتقدت في البداية أن إحدى وسائل الإعلام أعادت نشر أخبار يونيو من العام الماضي، ولكن اتضح أنه صحيح. في 12 نوفمبر، شن المسلحون اليمنيون هجمات باستخدام صواريخ كروز وطائرات مسيرة وصواريخ بحرية باليستية على حاملة الطائرات “لينكولن” الواقعة في بحر العرب، كما استهدفت اثنتان من المدمرات الأمريكية في البحر الأحمر باستخدام صواريخ باليستية وطائرات مسيرة, واستمرت العمليتان لمدة ثماني ساعات”.

يكمل الخبير الصيني: “لماذا أقول إن “الأضرار ليست كبيرة لكن الإهانة كبيرة جدًا؟” أولاً، اليمنيون يستهدفون المدمرات بصواريخ باليستية وطائرات مسيرة، بينما يهاجمون حاملة الطائرات بصواريخ كروز وطائرات مسيرة فقط، ولم يستخدموا الصواريخ فرط الصوتية من أولئك التي لديهم أكثر من 100 رأس حربي عابر.

 ويُجيب: يبدو أن حاملة الطائرات “لينكولن” لا تتمتع بنفس المعاملة التي تحظى بها المدمرات، أليس ذلك استحقارًا لحاملة الطائرات؟ ثانياً، بالنسبة للسفن الموجودة على البحر الأحمر، فمتعارف أن “الحوثيين” يهاجمونها باستمرار، فلماذا وقد اختبأنا بعيدًا في البحر العربي تتابع الهجمات علينا بينما نحن بعيدون عنك عدة مئات من الأميال؟ منذ الهجوم على حاملة الطائرات “أيدودو” (وهو اسم الدلال الذي يطلقه الصينيون على “أيزنهاور”) مرتين في ثلاثة أيام في يونيو، لم تدخل حاملة الطائرات الأمريكية حتى البحر الأحمر، بل اختبأت بعيدًا في بحر العرب. “هذا يعد تنمرًا صارخًا، عاد به عقل وإلا لا؟” (بيتمسخر الخبير الصيني بلسان الأمريكيين).

ثم يكمل حديثه “وبالطبع، تظل ردود فعل القوات الأمريكية كالمعتاد في إنكار تعرض حاملاتهم للهجوم، ويقولون “لم يحدث شيء”. لا أستطيع تفويت ذكر الهجوم السابق على “أيدودو”. في ذلك الوقت أصابت الصواريخ اليمنية منطقة قريبة من الحاملة مسافة 200 متر. كثيرون اعتقدوا أن الهجوم لم يكن مؤثرًا لأنه لم يصب مباشرة، لكن في الواقع، الإصابة على بعد 200 متر كانت أكثر رعبًا. تخيل، طول حاملة الطائرات الأمريكية يبلغ أكثر من 300 متر، لذا فإن الإصابة على بعد 200 متر تعني أن القذيفة مرت قريبًا جدًا، كما لو أن رصاصة مباشرة مرت من أمام حواجب شخص، إصابة شخص بشكل مباشر سهلة جدًا، لكن من الصعب أن تحاول جعل الرصاصة تمر من أمام حاجب الشخص! هذا هو “التحكم المرن”، هذا هو فن الحرب. مما يجعل حاملة الطائرات الأمريكية تحاول الهرب حتى وإن كانت في حالة فوضى، والنقطة المهمة، هي أن حاملة الطائرات نفسها بدون سابق إنذار لم تستطع اعتراض ذلك الهجوم”.