أسباب الغضب السعودي على لبنان.. خروجها من عباءة المملكة أم تمهيدٌ للمشروع الأَمريكي؟!

مع الرفعِ السعودي لوتيرة التصعيد ضد لبنان، تختلفُ الآراءُ والتحليلاتُ حول هذا التصعيد غير المسبوق ضد الدولة اللبنانية، البعضُ يقولُ إنها أزمةٌ مفتعلةٌ لإعادة خلط الأوراق في لبنان؛ بسبب انحسار النفوذ السعودي فيها، وآخرون يقرأون المشهدَ من زاويةِ التحضيرِ لاستهداف لبنان؛ لتحريك مياه المشروع الأَمريكي الكبير التي ركدت في الـيَـمَـن.

صدى المسيرة/ حسين الجنيد:

ومن واقعِ متابعة مستجدات التصعيد السعودي ضد لبنان، والذي رفعت سقفَه المملكة، للدرجة التي وصفه مراقبون “بالتصعيد غير المسبوق”، فبعد قرار السعودية المفاجئ بتعليق الهبات التي أعلنت عنها في وقت سابق، والمتمثلة في تمويل صفقات تسليحٍ للجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، أصدرت وزارة خارجية المملكة بياناً دعت فيه مواطنيها لسرعة مغادرة لبنان وعدم السفر إليها؛ حرصاً على سلامتهم، مبررةً هذا التصعيد بالمواقف اللبنانية المناهضة للسعودية على المنابر العربية والإقْليْمية والدولية.

وما زاد في تأزيم الوضع، مساندة الإمارات والبحرين للسعودية في هذا التصعيد وقيامهم بنفس الإجراءات ضد لبنان، وكأن المملكة تسعى لفرض عزلةٍ إقْليْميةٍ عليها والتأثير على الاقتصاد اللبناني، حيث يعتمد اقتصاد الأخيرة على السياحة والزوار الوافدين إليها من هذه الدول، إضافة إلى استثماراتهم الكبيرة في هذا القطاع، إلى جانب الهبات والمساعدات التي تقدمها هذه الدول للحكومة اللبنانية والتي تلعب دوراً في تسيير الأمور الاقتصادية فيها.

من جهةٍ أُخْــرَى، أثارت هذه الأزمة التي أشعلتها السعودية بهذه القرارات، العديدَ من التساؤلات، والتي تباينت وتعددت الإجابات عليها من قبل المراقبين والمحللين السياسيين، توزّعت غالبيتها في اتجاهَين، ومن خلال هذا التقرير سيتم رصد قراءة كُلّ اتجاهٍ للمشهد وتداعياته من الزوايا التي بنوا عليها تلك القراءات.

 

الخسارة السعودية في الملف اللبناني وخلط الأوراق

ويرى محللون ومراقبون، أن هذه القرارات جاءت نتاج تراكماتٍ مرحليّةٍ دفعت السعودية باتجاه خياراتٍ تصعيديةٍ؛ لإعادة التموضع في الخارطة اللبنانية السياسية، بعد الخيبات التي حصدتها مؤخراً في العديد من الملفات، كان أبرزها ملف رئاسة الجمهورية والذي تلقت فيه السعودية صفعة انسحاب سمير جعجع من الترشح الرئاسي لصالح المرشح الماروني ميشال عون، مرشح قوى الثامن من آذار بزعامة حزب الله، فلجأت إلى حيلة مبادرة قوى الرابع عشر من آذار التي تنص على “لا عون ولا جعجع” وانتخاب زعيم تيار المردة سليمان فرنجية كرئيس توافقي، فتفاجأ النظام السعودي بتصريح فرنجية الذي أكد فيه عدم حضوره جلسة البرلمان لانتخاب الرئيس بدون حزب الله، لتنحسرَ بهذه الوقائع دائرة النفوذ والتأثير السعودي على الملف الرئاسي اللبناني.

وكشف المغرّد السعودي “مجتهد”، أنّ سبب هذا التصعيد السعودي، يعود إلى فشل مفاوضات إطلاق الأمير السعودي عَبدالمحسن بن وليد بن عَبدالعزيز آل سعود، الموقوف في السجون اللبنانية منذ 26 أكتوبر العام الماضي؛ بتهمة تهريب طنَّين من المخدّرات، والذي بات يعرف بـ “أمير الكبتاغون”.

وأوضح في سلسلة تغريدات على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي “تويتر”، أنّ قرارَ إيقافِ المساعدات السّعودية للبنان، ليس له علاقة بسيطرة “حزب الله” على الجيش اللبناني، ولا سياسات الحكومة اللبنانية، مشيراً إلى أنّه “مرتبط بانهيار مفاوضات إطلاق سراح الأمير المعتقل بتهمة تهريب مخدرات وفشل الحكومة اللبنانية في منع الحزب من الضغط على السعودية بالأمير”.

ولفت “مجتهد” الانتباه، إلى أنّ “الحكومة السعودية ترمي من إعلانها القرار بهذا الصوت العالي ستضطر كُلّ الأطراف اللبنانية للضغط على حزب الله لإطلاق الأمير ثم تعيد المساعدات”.

ثم جاء الموقف اللبناني بامتناعها عن التصويت على قرار وزراء الخارجية العرب المتعلق بأزمة مهاجمة المتظاهرين الإيرانيين للبعثة الدبلوماسية السعودية في إيران احتجاجاً على إعدام المملكة للشيخ النمر مطلع هذا العام، حيث طالب القرار إيران بوقف دعم الأحزاب المسلحة داخل الدول العربية، واعتبار ذلك تهديدًا للأمن القومي العربي، في إشارةٍ إلى حزب الله اللبناني أحد المكونات السياسية في قوى الثامن من آذار اللبنانية.

وبهذا الخصوص صرّح وزير الخارجية اللبناني “جبران باسيل”، “أنه امتنع عن التصويت على بيان الجامعة العربية بإدانة الهجوم على الممثليتين السعوديتين؛ لأن البيان جاء على ذكر حزب الله، واتهمه بالإرْهَـاب”.

وعلى ضوء هذه التراكمات يرى البعض أنها تشير وبشكلٍ قطعي على شعور المملكة بفقدانها النفوذ الذي كانت تمتلكه داخل لبنان، مما دفعها لاتخاذ هذه القرارات، وإعلانها عن حزمة إجراءاتٍ عقابية مقبلة، تمارس من خلالها الضغوطات على لبنان، بتأزيم الوضع داخلياً بمساعدة بعض الأطراف المحسوبة عليها كقوى الرابع عشر من آذار، لتخلط الأوراق وتعيد تموضعها سياسياً، من خلال تسويةٍ تتوصل فيها مجموعة الضغط التابعة لها في الداخل اللبناني مع بقية القوى السياسية؛ لحلحلة كُلّ الملفات العالقة، بشكلٍ توافقي مُرْضٍ لجميع الأطراف، وتتمكن خلالها السعودية من استعادة نفوذها السابق على معظم الملفات التي خسرتها، في مقابل إيقافِ المملكة تصعيدها تجاه لبنان وإنْهَاء تعليق المساعدات وعودة العلاقات لسابق عهدها بين البلدين.

 

خروجُ لبنان من العباءة السعودية

وفي ردَّة فعله الأولى على التصعيد ضد بلادهم، خرجت المقاومة الإِسْــلَامية في لبنان عن صمتها، ففي حديثٍ للشيخ نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله، والذي أكد فيه أنّ “ما حصل الأسبوعَ الماضيَ من السعودية يتطلب أن تعتذرَ السعودية من لبنان؛ لأنها أساءت إلى اللبنانيين، أساءت إلى أولئك الذين عملوا طويلًا من أجل تحرير أرضهم واستقلالهم ومحاولة إدارة شؤونهم بتفاهم وتعاون الأطياف المختلفة. السعودية هي التي اعتدت، أمام نحن فلم نعتدِ عليها، ولم نتصرف خلاف المنطق وخلاف حرية الرأي، كُلّ ما في الأمر أننا وصَّفنا أعمال السعودية”.

وأكّد أن “مسألة رفض المقاومة الإِسْــلَامية في لبنان للعُـدْوَان على الـيَـمَـن هي من باب الالتزامِ الأخلاقي تجاه شعبٍ عربي مقاوم مظلوم، أكدت كُلّ التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية مظلوميته وإدانتها لهذا العُـدْوَان بحقه”. مضيفاً أن “لبنان سيظل دائماً وأبداً بلد الحريات، ولن تكون إمارةً سعوديةً، أو غير سعودية”.

وفي تناغمٍ مع هذه التصريحات لنائب الأمين العام لحزب الله، صرّح مصدرٌ في قوى الثامن من آذار لـ “الأخبار” اللبنانية أن “لبنان تحرّر، لأول مرة، من المظلة السعودية التي أدركت ذلك، وهي متوجهة نحو سحب البساط تدريجياً من تحت أقدام آل الحريري الذين يتجهون نحو العجز المادي، بعد رفض الملك سلمان دعم مجموعة شركاتهم في الرياض، حيث تركز المملكة دعمها المالي لزعماء المحاور في الشمال ومناطق أُخْــرَى مثل صيداً؛ لإدراكها أنّ الكلمة الفصل للميادين في هذه الظروف وعلى كافة محاور المنطقة، من لبنان إلى سورية فالـيَـمَـن، لتبني على الشيء مُقتضاه”.

 

تمهيدُ المشروع الأَمريكي للميدان اللبناني

ومن زاويةٍ مختلفةٍ، يقرأ بعض المحللين والمراقبين المشهد من خلال مشروع أَمريكا الكبير الذي يستهدف المنطقة، فمؤشرات وقائع السنوات الأخيرة، وتسلسل الأحداث فيها، توحي بوجود ترابطٍ في تراتبها الزمني، مع ما يشهده الوضع الراهن من تصعيدٍ سعودي، يؤكد أن ثمة مخططاً يجري الإعداد له، وتفوح الرائحة الأَمريكية منه.

فبعد إدراج الولايات المتحدة للمقاومة الإِسْــلَامية في لبنان ضمن قائمة الإرْهَـاب، مارست ضغوطاتٍ على الاتحادِ الأوروبي لاتخاذ الإجراء ذاته ضد حزب الله، فقوبلت الضغوطات بالرفض؛ لعدم وجود الأدلة الكافية لإدانة الحزب بالإرْهَـاب، وظل هذا الرفض قرابة العام، حتى وقع تفجير مدينة بورغاس البلغارية في صيف 2013، ومسارعة الحكومة البلغارية باتهام حزب الله في تنفيذه، على خلفية معلوماتٍ قدمتها المخابرات الأَمريكية التي تؤكد صلة مواطنَين لبنانيين ينتمون لحزب الله وتورطهم في حادث التفجير الذي استهدف سياح اسرائيليين.

حينها أقرَّ الاتحادُ الأوروبي في اجتماعٍ لوزراء خارجية أعضائه في بروكسيل، إدراج حزب الله على لائحة التنظيمات الإرْهَـابية.

ويصنف الدكتور محمود رمضان الخبير القانوني اللبناني، قرارَ الاتحادِ الأوروبي بوضع الجناح العسكري لحزب الله على لائحة الإرْهَـاب أنه “ذو طابع سياسي وليس ذا طابع قانوني، فالاتحاد الأوروبي لم يدقق في حيثيات وملابسات التفجير والأدلة التي ساقتها الحكومة البلغارية في اتهامها لحزب الله؛ لأن القرار اتخذ بناءً على رغبةٍ أميركيةٍ وخدمةٍ لإسرائيل” .

وأضاف الدكتور رمضان أن “القرارَ يشكِّلُ خطراً على المقاومة الإِسْــلَامية ويستهدفها استهدافاً مباشراً، حيث أصبحت في مرمى الاستهدافِ العالمي بحجة الإرْهَـاب”.

وفي ذاتِ السياق والاتجاه، أصدر مجلس التعاون الخليجي قراراً مماثلاً أدرج فيه حزبَ الله على قائمة التنظيمات الإرْهَـابية، مما دفع بعض المحللين السياسيين إلى القول “إن هذا الزخم من القرارات المتخذَة ضد حزب الله، تؤكد النوايا المبيّتة لدى متخذي هذه القرارات وعلى رأسهم الولايات المتحدة، لشن هجومٍ على المقاومة الإِسْــلَامية والقضاء عليها تحت مظلة مكافحة الإرْهَـاب، وبغطاءٍ قانوني ودولي.

 

التحالفُ الإِسْــلَامي والنموذج الـيَـمَـني

وفي تسلسلٍ للأحداث أعلنت السعودية عن تحالفٍ إِسْــلَامي؛ الغاية منه محاربة الإرْهَـاب وحِماية الأمة والمنطقة من مخاطره، وتضمن هذا الإعلان وجود لبنان في هذا التحالف، الخبر الذي كان بمثابة المفاجأة الصادمة للكثير من القيادات السياسية في لبنان وعلى رأسهم وزير خارجيتها جبران باسيل، حيث تبيَّنَ عدمُ درايتهم المطلقة بهذا التحالف ومشارَكة لبنان فيه، سوى تمام سلام رئيس الوزراء وسعد الحريري الذي سارَعَ بمباركة هذا التحالف.

هذا الخبرُ أثار موجةً من الجَدَل في الأوساط السياسية اللبنانية، والكثير من التساؤلات عن التعتيم الذي غلّف إشراك لبنان في هذا التحالف، بدون طرح المسألة للنقاش على جدول أعمال أعضاء الحكومة للبت بالموافقة عليه بالإجماع أو رفضه.

وَكيف يشارك لبنان في تحالف تقوده الرياض، من دون حسم تعريف الإرْهَـاب الذي ينطوي في القاموس السعودي على تفسير ملتبس ومطاط، لاسيما أن “التحالُف الإِسْــلَامي سيتولى محاربة كُلّ الجماعات والتنظيمات الإرْهَـابية أياً كان مذهبها وتسميتها؟”.

محللون سياسيون ومراقبون فسّروا مسألة ضم لبنان لهذا التحالف، وبهذه الطريقة السرية، حتى يكون لهم غطاء قانوني في مهاجمة حزب الله؛ كونه تنظيماً إرْهَـابياً وفق التصنيف الأَمريكي والأوروبي والخليجي، وهذا يفسّر الصيغة التي أعدتها السعودية في إعلانها لتأسيس التحالف بقولها” محاربة كُلّ الجماعات والتنظيمات الإرْهَـابية أيّاً كان مذهبها وتسميتها” في إشارةٍ منها بشكلٍ واضح لحزب الله.

من جهتهم أكّد البعضُ من المحللين أن مسألة إلحاق لبنان في هذا التحالف مع النية المعلنة لاستهداف حزب الله شبيهةٌ بالنموذج الـيَـمَـني، والذي تم شن العُـدْوَان عليها تحت مظلة الطلب الحكومي للتحالف العربي بالتدخل من أجل القضاء على حركة أنصار الله “الانقلابية”، وإن اختلفت بعض الحيثيات لكن السياق والتسلسل للأحداث فيه تقارب كبير وتشابه من حيث النوايا والغايات.

وأضافوا “أن ما تقومُ به المملكة من اتصالاتٍ دبلوماسيةٍ بعدد من الدول العربية؛ لاستكشاف إمكان عقد جلسة طارئة لمجلس وزراء الخارجية العرب؛ بهدف إصدار قرار يدين حزب الله بسبب دوره في الحرب السورية واعتباره تنظيماً إرْهَـابياً، فهي تسعى بذلك لإيجاد مظلةٍ إقْليْمية عربية كغطاءٍ لشن هجومها على حزب الله، على غرار تحشيدها لتحالف العُـدْوَان على الـيَـمَـن، وما تبثه وسائل إعْـلَامها مؤخراً، من ارتباط وتورط مقاتلي حزب الله في الحرب الدائرة في الـيَـمَـن إلى جانب أنصارِ الله، ليس سوى فبركاتٍ لإيجاد الذرائع المبررة لاستهدافه.

فيما رجّح المحلل السياسي الـيَـمَـني “لقمان عَبدالله”، أن “الفشلَ السعودي العسكري في الـيَـمَـن وعجزه عن تحقيق أي منجزٍ له في الميدان دفع بالمملكة لهكذا تصعيد في لبنان لإثبات وجودها على الخارطة الإقْليْمية”، مضيفاً “أن محاولة ربط العُـدْوَان على الـيَـمَـن بالمقاومة اللبنانية وبالضغط على لبنان، دليلٌ على نفادِ كُلّ الخيارات أمام السعودية التي باتت تستخدمُ الهوامشَ الضيِّقة التي هي عبارة عن مساحة تتركها الدول الكبرى لمراعاة خصوصيات أصدقائها”.